صعد درجات السلم بحذر شديد.. كانت الأرض زلقة لكنه لم يكن يخشى على نفسه بقدر ما كان يخشى على الطفلة التي بين ذراعيه.. تأكد مرة أخرى من أنها مدثرة بإحكام فقد كان البرد قارصا..كانت ضربات قلبه تسابقه.. ترى هل من الحكمة القيام بذلك؟ ماذا سيكون رد فعلهم؟ هل كان بنبغي أن يخبرها أولا.. آلاف الافكار تتصارع في رأسه.. لكن قدميه لم تكونا على القدر ذاته من التردد.. كانتا تصعدان به بما يشبه القصور الذاتي إلى حيث منزل أسرتها.. للمرة الأولى منذ تقدم لخطبتها ورفض سيذهب للقياهما.. سيخبرهما بأنهما صارا جدا وجدة.. وأن حفيدتهما التي تنعم بالدفء الآن بين ذراعيه اتمت الشهر السادس من عمرها.. هاهو الباب.. إنه يقترب .. لا مجال للتراجع الآن.. خطوتان تفصله عن جرس الباب.. يمسك بي بقوة بيد ثم يمد يده الأخرى يضغط جرس الباب.. مرت اللحظات وكأنها دهر أو ربما بسرعة البرق... لا يذكر.. المهم أن الباب فجأة انفتح على وجه جدتي المصدوم.. كانت قصيرة القامة لذا كان أول ما وقع عليه نظرها هو أنا...ظلت تحملق لثواني ثم
تيتة: بنتها؟
هو: أيوة
لحظة صمت أخرى غير مريحة ثم بدأت تفسح له الطريق... خطا إلى الداخل متوقعا أن يجد جدي في الردهة لكنه لم يكن.. لا يعلم لماذا تنفس الصعداء.. ربما كان يريد تأجيل لحظة المواجهة لأطول فترة ممكنة .. لكن راحته لم تكتمل.. فقد انزاح الستار الذي يفصل بين الردهة والرواق ليكشف عن هذا العملاق العريض المنكبين .. في البداية نظر له ولم يتعرف عليه .. ثم التمعت عيناه عندما أدرك من هو.. ما هذا الالم .. إلهي لا تدعني أسقط الآن.. ليس أمامه.. تمالك نفسك .. الآن توجه بهدوء وصافحه.. التقط أبي اليد الممدودة بحذر .. لم يضع عيناه في الأرض بل ثبتها في وجه الناظر إليه.. لحظة صمت أخرى غير مريحة.. ثم انتبه جدي إلى الكائن الصغير داخل اللحاف الوردي..
هو (لي في زمن آخر) : النظرة اللي كانت في عينيه ساعتها كانت غريبة.. كان فرحان وزعلان.. دموع وابتسامة.. كان فعلا في حالة مش طبيعية أول ما شافك
مد يده ولمس حواف اللحاف ثم بدأ يسحبني برفق إلى أن انتهيت بين ذراعيه.. ظل ينظر لي لحظات ثم طبع قبلة على جبيني
-----------------------------------------------------------
بعد ذلك اليوم المشهود بعام توفي جدي .. جدتي بدأت تتقبل الأمر الواقع شيئا فشيئا.. إلى أن تعلمت كيف تحبه..فلم يعد يهمها إلى أي دين ينتمي.. حتى شقيقات أمي .. سلمن بأن ما حدث حدث بل إن إحداهن عندما عادت إلى مصر بعد غياب طويل وزارتنا أقرت بأنها لم تشعربالحب إلا في بيتنا.. الشخص الوحيد الذي فشل في تقبل هذا الواقع كان الخال.. ولا أدري إن كانت مفارقة مقصودة أن يكون هذا الشخص تعيسا للغاية في حياته الزوجية.. لا يهم
--------------------------------------------------------------------------
كل ذلك لا يعني أن حياتهما كانت سهلة فالطريق حتما لم يكن ممهدا .. بل على العكس كان مليئا بالمنحنيات الوعرة..فمن صعوبات مادية ومشاكل في العمل.. إلى أعباء تربية ثلاثة أطفال ..وغيرها من المشاكل الكفيلة بقصم ظهر أي أسرة عادية.. لكننا لم نكن يوما أسرة عادية ولا هما كانا يوما شخصين عاديين..
----------------------------------------------------------------------
لم يكن الدين أبدا عائقا أو مشكلة.. أمي كانت تحضر شيخا لي وأنا في السادسة من عمري ليعلمني الخط وحفظ القرآن.. تحرص دوما على أن تشجعنا في دراسة الدين.. وعلى أن تصوم معنا على الاقل أول أسبوع في رمضان.. بل إني عندما طلبت منها أن أقرأ الانجيل وأنا في السابعة عشرة من عمري رفضت وقالت لي "لما تبقي تعرفي دينك كويس إبقي إقري في دين تاني"
----------------------------------------------------------------
بالنسبة لنا أو بالنسبة لي على الأقل كانت مسيحيتها جزء من تميزها فهي ليست من أولئك الذين يدعون التدين.. بل هي مؤمنة حقة .. تؤمن
بإلهها وتحبه حقا لا إدعاء أو خوفا..
وبعيدا عن كل ذلك .. فهي في نظرنا نحن الثلاثة .. ماما بكل روعتها وبهائها ..
-------------------------------------------
بالنسبة لنا كان دائما صديقا .. بقدرته الخارقة على النفاذ إلى النفوس، كان قادرا على قراءتنا بسهولة.. وبالتالي كان يعرف المدخل إلى كل واحد منا .. اكتشف بسهولة حب أخي للصيد فكان يصطحبه معه في جولات أسبوعية... مفتاح اختي كان في تدليلها بالقدر الكافي دون إفسادها بحكم كونها آخر العنقود.. أما مفتاحي أنا فكان الاكثر سهولة والاكثر صعوبة أيضا .. فانا أشبهه إلى حد بعيد.. أفكر بشكل مشابه لكني مثله أيضا متمردة.. ومثله أيضا شرسة الطباع.. لذا لم يكن ترويضي واكتساب صداقتي مهمة سهلة..
ربما أحكي عن ذلك في تدوينة أخرى لكن للآن هذا يكفي